د. صالح العطوان الحيالي الحيالي

الوثيقة العمرية في فتح بيت المقدس "دالة على أصالة التسامح الإسلامي من جانب ، ودالة على المكانة التي تتبوأها القدس من جانب آخر "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق- 24-5-2018
العهدة العمرية او الوثيقة هي كتاب كتبه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيلياء (القدس) عندما فتحها المسلمون عام 638 للميلاد، أمنهم فيه على كنائسهم وممتلكاتهم. وقد اعتبرت العهدة العمرية واحدة من أهم الوثائق في تاريخ (القدس) ..كان الفتح الاول لبيت المقدس(جمادى الاولى_الثانية 16هـ/يونيو_يوليو 637م) بقيادة الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أعلى سلطة سياسية ودينية في الدولة الاسلامية وقتها،تحول جذري في حياة سكان هذه المدينة بمختلف معتقداتهم.حيث أصبح هناك علاقات وثيقة متبادلة بين أبناء الديانات السماوية الثلاثة(اليهودية،المسيحية،والاسلام)،بعد أن عاشوا زمناً من الدمار والخراب والقتل والتهجير في ظل حكم البيزنطيين المسيحيين.وقد تم توثيق هذه العلاقات بالوثيقة التي عرفت عبر التاريخ "بالعهدة العمرية".
ماهية العهدة او الوثيقة العمرية
ــــــــــــــــــــــ العهدة مأخوذة من العهد وهو الأمان وكذلك الذمة. والعهدة العمرية أو العهد العمري أو عهد عمر منسوباً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو عقد الصلح الذي أبرمه عمر مع سكان بيت المقدس،فدخل المدينة به ضمن السيادة الاسلامية. وقبل البدء في فحص الوثيقة لا بد من إلقاء الضوء على طبيعتها من حيث كونها معاهدة أم عهدة ، لقد وصف العلماء العرب والمستشرقين ما منحه عمر لأهل إيلياء على أنه معاهدة أو اتفاقية.وعلى الرغم من احتمال قيام عمر بالتفاوض مع السكان بخصوص شروط الاستسلام،لكن لم يكن هناك اتفاقية.فعمر لم يوقع على معاهدة بين الجانبين،بل أعطى أهل إيلياء وثيقة أمان،لم يكن هناك اسم لطرف ثانٍ،كذلك فإن فقرتا الافتتاحية والخاتمة في روايات اليعقوبي وبطريرك الاسكندرية ابن البطريق والطبري،تؤكد على أنها عهداً وليست معاهدة.
منذ أبرمت الوثيقة العمرية والقدس تحظى بعناية المسلمين على نحو عنايتهم بالمسجد الحرام والمسجد النبوى الشريف .
في سنة 15 هجرية - أي بعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) بخمسة أعوام - تمكن المسلمون من فتح كثير من بلاد الشام على إثر معركة اليرموك ، ودانت لهم حمص وقنسرين وقيسارية وغز ة واللاذقية وحلب ، وحيفا ويافا وغيرها . وقد اتجه لفتح بلاد فلسطين قائدان مسلمان هما: عمرو بن العاص ، وأبو عبيدة بن الجراح الذي إليه يُعْزَى فضل إدخال بيت المقدس في الإسلام ، وكانت تسمى بإيليا .
وكان المسلمون قبل تقدمهم لفتح بيت المقدس (إيلياء) قد اشتبكوا مع الروم في معركة حامية الوطيس هي: معركة أجنادين ، وانتصروا فيها بعد قتال شديد يشبه قتالهم في اليرموك ، وفرَّ كثير من الرومان المهزومين ومنهم "الأرطبون" نفسه إلى إيلياء .
وقد تقدم المسلمون بفتح (إيلياء) في فصل الشتاء ، وأقاموا على ذلك أربعة أشهر في قتال وصبر شديدين ، ولما رأى أهل إيلياء أنهم لاطاقة لهم على هذا الحصار ، كما رأوا كذلك صبر المسلمين وجلدهم وأشاروا على (البطريرك) أن يتفاهم معهم ، فأجابهم إلى ذلك ، فعرض عليهم أبو عبيدة بن الجراح إحدى ثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال ، فرضوا بالجزية ، والخضوع للمسلمين ، مشترطين أن يكون الذي يتسلم المدينة المقدسة هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نفسه رضى الله عنه !! .
وقد أرسل أبو عبيدة بن الجراح إلى أمير المؤمنين عمر بما اتفق عليه الطرفان ، فرحب عمر بحقن الدماء ، وسافر إلى بيت المقدس ، واستقبله المسلمون في الجابية وهي قرية من قرى الجولان شمال حوران ، ثم توجَّه إلى بيت المقدس ، فدخلها سنة 15هـ- - 636م، وكان في استقباله "بطريرك المدينة صفرونيوس" وكبار الأساقفة ، وبعد أن تحدثوا في شروط التسليم انتهوا إلى إقرار تلك الوثيقة التي اعتبرت من الآثار الخالدة الدالّة على عظمة تسامح المسلمين في التاريخ ، والتي عرفت باسم العهدة العمرية .وردت العهدة او الوثيقة في كتب التاريخ بأكثر من صيغة ونص، وتتراوح من نصوص قصيرة ومقتضبه كنص اليعقوبي ونص ابن البطريق وابن الجوري، أو مفصلة كنص ابن عساكر ونص الطبري ومجير الدين العليمي المقدسيِ ونص بطـريركيـة الروم الأرثوذكس.
إن المصادر التاريخية تعكس بحسب اختلاف رواتها أو مؤلفها،الاوضاع العامة،والتطورات الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في عصرهم،كما تتلون تلك المصادر بوقت التسجيل وبشخصية المؤلف وبألوان المصالح المحلية والسياسية والدينية.وإذا كان تسجيل المؤلف للأصل التاريخي هو أثراً عقلياً سيكولوجياً وعملية سيكولوجية معقدة فإن معرفة مؤلف الأصل التاريخي وشخصيته مسألة هامة في نقد الاصول التاريخية وتحليلها. فالروايات الأولى التي روت العهدة العمرية بالفحوى دون ايراد نصوص معينة لها هي روايات حجازية،كرواية الواقدي الذي يوصف بالتشيع المعتدل.أو روايات شامية كرواية أبي حفص الدمشقي في البلاذري،وهي أدق وأقصر الروايات عن العهدة العمرية. فبالمقارنة مع الروايات الحجازية والكوفية فإن الروايات الشامية عن الفتوحات الاسلامية في الشام تعد من الروايات المميزة.ومن أوثق مصادرها،فهي تتضمن معلومات وتفصيلات نادرة،وأقرب إلى أماكن حدوثها،وعلى علم دقيق بالفتوحات الاسلامية.
ونظرًا لمكانة هذه الوثيقة في الحضارة الإسلامية ؛ ولأنها دالة أبلغ الدلالة على مدى تسامح الفتوحات الإسلامية والفاتحين المسلمين ، نظرًا لهذين الاعتبارين نورد نصَّها الذي تكاد تجمع عليه المصادر التاريخية الوثيقة:
"بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانـًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها ؛ أنه لاتسكن كنائسهم و لا تهدم ولاينتقص منها ولا من خيرها ، و لا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضام أحد منهم ، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود ، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن ، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص ، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم (ويخلى بيعهم وصلبهم) ، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم ، حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لايؤخذ منهم شىء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية .
شهد على ذلك: خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان .
وكتب وحضر سنة خمسة عشرة هـ .
الشروط العمرية كما جائت فى تفسير ابن كثير للقران
إسم المؤلف : إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي أبو الفداء
وفاة المؤلف 774
التى جائت على تفسير سورة التوبة آية 5 : " فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ "
اِشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ تِلْكَ الشُّرُوط الْمَعْرُوفَة فِي إِذْلَالهمْ وَتَصْغِيرهمْ وَتَحْقِيرهمْ وَذَلِكَ مِمَّا رَوَاهُ الْأَئِمَّة الْحُفَّاظ مِنْ رِوَايَة عَبْد الرَّحْمَن بْن غَنْم الْأَشْعَرِيّ قَالَ : كَتَبْت لِعُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين صَالَحَ نَصَارَى مِنْ أَهْل الشَّام
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم
هَذَا كِتَاب لِعَبْدِ اللَّه عُمَر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَة كَذَا وَكَذَا إِنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَان لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِيّنَا وَأَمْوَالنَا وَأَهْل مِلَّتنَا وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسنَا أَنْ
لَا نُحْدِث فِي مَدِينَتنَا وَلَا فِيمَا حَوْلهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَة وَلَا قلاية وَلَا صَوْمَعَة رَاهِب وَلَا نُجَدِّد مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلَا نُحْيِي مِنْهَا مَا كَانَ خُطَطًا لِلْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا نَمْنَع كَنَائِسنَا أَنْ يَنْزِلهَا أَحَد مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْل وَلَا نَهَار وَأَنْ نُوَسِّع أَبْوَابهَا لِلْمَارَّةِ وَابْن السَّبِيل وَأَنْ نُنْزِل مِنْ رَأَيْنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَة أَيَّام نُطْعِمهُمْ وَلَا نَأْوِي فِي كَنَائِسنَا وَلَا مَنَازِلنَا جَاسُوسًا وَلَا نَكْتُم غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا نُعَلِّم أَوْلَادنَا الْقُرْآن وَلَا نُظْهِر شِرْكًا وَلَا نَدْعُو إِلَيْهِ أَحَدًا
وَلَا نَمْنَع أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتنَا الدُّخُول فِي الْإِسْلَام إِنْ أَرَادُوهُ وَأَنْ نُوَقِّر الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ نَقُوم لَهُمْ مِنْ مَجَالِسنَا إِنْ أَرَادُوا الْجُلُوس وَلَا نَتَشَبَّه بِهِمْ فِي شَيْء مِنْ مُلَابِسهمْ فِي قَلَنْسُوَة وَلَا عِمَامَة وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْق شَعْر
وَلَا نَتَكَلَّم بِكَلَامِهِمْ وَلَا نَكَتْنِي بِكُنَاهُمْ وَلَا نَرْكَب السُّرُوج وَلَا نَتَقَلَّد السُّيُوف وَلَا نَتَّخِذ شَيْئًا مِنْ السِّلَاح وَلَا نَحْمِلهُ مَعَنَا وَلَا نَنْقُش خَوَاتِيمنَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا نَبِيع الْخُمُور وَأَنْ نَجُزّ مَقَادِيم رُءُوسنَا وَأَنْ نَلْزَم زَيِّنَا حَيْثُمَا كُنَّا وَأَنْ نَشُدّ الزَّنَانِير عَلَى أَوْسَاطنَا وَأَنْ لَا نُظْهِر الصَّلِيب عَلَى كَنَائِسنَا وَأَنْ لَا نُظْهِر صُلُبنَا وَلَا كُتُبنَا فِي شَيْء مِنْ طُرُق الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقهمْ وَلَا نَضْرِب نَوَاقِيسنَا فِي كَنَائِسنَا إِلَّا ضَرْبًا خَفِيفًا وَأَنْ لَا نَرْفَع أَصْوَاتنَا بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسنَا فِي شَيْء فِي حَضْرَة الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَخْرُج شَعَّانِينَ وَلَا بُعُوثًا وَلَا نَرْفَع أَصْوَاتنَا مَعَ مَوْتَانَا
وَلَا نُظْهِر النِّيرَان مَعَهُمْ فِي شَيْء مِنْ طُرُق الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقهمْ وَلَا نُجَاوِرهُمْ بِمَوْتَانَا وَلَا نَتَّخِذ مِنْ الرَّقِيق مَا جَرَى عَلَيْهِ سِهَام الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ نُرْشِد الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَطْلُع عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلهمْ .قَالَ فَلَمَّا أَتَيْت عُمَر بِالْكِتَابِ زَادَ فِيهِ وَلَا نَضْرِب أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَرَطْنَا لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسنَا وَأَهْل مِلَّتنَا وَقَبِلْنَا عَلَيْهِ الْأَمَان فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا فِي شَيْء مِمَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ وَوَظَّفْنَا عَلَى أَنْفُسنَا فَلَا ذِمَّة لَنَا وَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مِنَّا مَا يَحِلّ مِنْ أَهْل الْمُعَانَدَة وَالشِّقَاق
نص العهدة العمرية من كتاب لأبن القيم الجوزية
عن عبد الرحمن بن غنم : كتبتُ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرَط عليهم فيه " الا يُحدِثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا يجدِّدوا ما خُرِّب،ولا يمنعوا كنائسهم من أن ينزلها أحدٌ من المسلمين ثلاث ليالٍ يطعمونهم، ولا يؤووا جاسوساً،ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلّموا أولادهم القرآن، ولا يُظهِروا شِركاً، ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوا، وأن يوقّروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبّهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم، ولا يتكنّوا بكناهم، ولا يركبوا سرجاً، ولا يتقلّدوا سيفاً، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجُزُّوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيَّهم حيثما كانوا، وأن يشدّوا الزنانير على أوساطهم، ولا يُظهِروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيءٍ من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفيفاً،ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين،
ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم، ولا يَظهِروا النيران معهم،ولا يشتروا من الرقيق ما جَرَتْ عليه سهام المسلمين.فإن خالفوا شيئاً مما شرطوه فلا ذمّة لهم، وقد حلّ للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق,
وأجاب المسيحيين المذلين , الذين أحتلت أراضيهم بقوة سيف المستعمر العربي المسلم الغاصب ...
نص العهدة عند اليعقوبي
اليعقوبي: رحالّة ومؤرخ جغرافي توفي عام(284هـ/897م)،أول من أورد نصاً للعهدة العمرية.
نص العهدة:"هذا كتاب عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس.إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم لا تسكن ولا تخرب،إلا أن تحدثوا حدثاً عاماً. وهناك نصٌ مختصر لسعيد بن البطريق:طبيب ومؤرخ مسيحي مصري. نصه:"بسم الله من عمر بن الخطاب لأهل مدينة إيلياء،أنهم آمنون على دمائهم وأولادهم وأموالهم وكنائسهم،ألا تهدم ولا تسكن. يتبين لنا من هذين النصين المختصرين أنهما يركزان على إعطاء أهل إيلياء الأمان وحقوقهم الدينية كافة،لكن هذين النصين مختلفين من حيث العبارات والاسلوب.فنص اليعقوبي جاء بصيغة المخاطب أما نص ابن البطريق جاء بصيغة الغائب،كما أنهما لم يذكرا شيئاً عن الجزية وهي نقطة مهمة في جميع الاتفاقيات التي تم التوصل إليها مع غير المسلمين،مما يبطل صحة هذه النصوص،ويثير التساؤل:هل قام اليعقوبي بحذف أجزاء أخرى من النص أم أنه كتب ما يعرفه؟ولو أن استثناء الطبري الذي سنناقشه لاحقاً(منع اليهود من سكنى الاقليم)كان صحيحاً،كيف لابن البطريق المسيحي المونوفسيتي وهو في مكانته وعلى خلاف عقائدي مع المذهب الرسمي للدولة البيزنطية الممثلة بالبطريرك صفرونيوس الخلقيدوني أن يهمل هذا الاستثناء لليهود؟ (المذهب الخلقيدوني القائل بالطبيعة الثنائية للمسيح عليه السلام،المذهب المونوفسيتي القائل بالطبيعة الواحدة للمسيح.)
وهذه الوثيقة دالة أبلغ الدلالة - كما ذكرنا - على أصالة التسامح الإسلامي من جانب ، ودالة على المكانة التي تتبوأها القدس من جانب آخر ، ولعل التاريخ لايذكر إلى جانب صفحة هذه الوثيقة صفحة أخرى من تسامح الأقوياء المنتصرين مع المحاصرين المستسلمين على النحو الذي ترد عليه بنود هذه الوثيقة .
ولعل أية دراسة نقدية لبنود هذه الوثيقة تكشف عن مدى التسامح الإسلامي الذي لانظير له في تاريخ الحضارات .
ومنذ أبرمت هذه الوثيقة التاريخية الخالدة ، وبيت المقدس تحظى بعناية الحكام المسلمين على نحو قريب من عنايتهم بالمسجد الحرام والمسجد النبي الشريف .
وقد تعاقب عليها الحكام المسلمون من الراشدين إلى الأمويين إلى العباسيين إلى بنى طولون الإخشيديين إلى الفاطميين إلى السلاجقة ، فالمماليك فالأتراك ، وكلهم يوليها الاهتمام الجدير بها.
وقد ظلت إسلامية عربية منذ العهدة العمرية الآنفة الذكر سنة (15هـ- 636م) حتى سنة (1387هـ - 1967م) باستثناء فترة الحروب الصليبية (1099م - 1187م).
وقد توالت عصور التاريخ الإسلامي والمسلمون يعاملون أبناء الأديان الأخرى في القدس وغيرها أفضل معاملة عرفت في التاريخ لدرجة أن المؤرخ الإنجليزى الكبير "أرنولد توينبي" اعتبر ظاهرة التسامح الإسلامي ظاهرة فريدة وشاذة في تاريخ الديانات .
وكان أهل الذمة الأصليون يعاملون كأهل البلاد الأصليين دائمـًا لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في إطار ما نص عليه الإسلام ، وقد نص القرآن على معاملتهم بالحسنى ، ومجادلتهم بالتي هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم ، كما أوصى الرسول بهم خيرًا ، وقد كان الخليفة العباسي هارون الرشيد يعامل الزوار النصارى للقدس المعاملة الإسلامية المعتمدة لأهل الكتاب ، وقد سمح الرشيد للإمبراطو ر "شارلمان" بترميم الكنائس ، وفي سنة 796م أهدى هارون الرشيد "شرلمان" ساعة دقاقة وفيلاً وأقمشة نفيسة ، وتعهد بحماية الحجاج النصارى عند زيارتهم للقدس ، لذلك كان شرلمان يرسل كل سنة وفدًا يحمل هدايا إلى الرشيد .
وقد زار القدس في القرن التاسع عشر "برنار الحكيم" وذكر أن المسلمين والمسيحيين النصارى في القدس على تفاهم ، وأن الأمن مستتب فيها ، وأضاف قائلا : وإذا سافرت من بلد إلى بلد ومات جملي أو حماري ، وتركت أمتعتي مكانها ، وذهبت لاكتراء دابة من البلدة المجاورة سأجد كل شيء على حاله لم تمسه يد .
إن الوثيقة العمرية لم تقم على مجرد أصول إسلامية عامة في العلاقات الدولية ، بل قامت على أصول إسلامية خاصة ومحددة تتصل ببيت المقدس ، وعلى أصول مرتكزة على كتاب الله وسنة رسوله وسلوك المسلمين من بعده ، فإن المسلمين منذ أربعة عشر قرنـًا ينظرون إلى بيت المقدس نظرة تقديس ، على أنه مركز لتراث ديني كبير تجب حمايته ، وهم يربطون ربطـًا كاملاً وثيقـًا بين المسجد الحرام في مكة والمسجد الأقصى في القدس ، وينظرون إلى القدس نظرة تقترب من نظرتهم إلى مكة .
فإليهما يشدون الرحال ، وفي كليهما تراث ديني ممتد في التاريخ ، فإذا كان أبو الأنبياء إبراهيم قد وضع قواعد الكعبة في مكة ، فإن جسده الشريف يرقد على مقربة من القدس في الخليل ، فيما يرى كثير من الرواة والمؤرخين ، وإذا كان المسلمون في كل بقاع الأرض أصبحوا يتجهون في صلاتهم إلى المسجد الحرام ، فإنهم لاينسون أن نبيهم محمدًا وأسلافهم الصالحين قد اتجهوا قبل نزول آيات تحديد القبلة إلى الكعبة اتجهوا إلى المسجد الأقصى أولى القبلتين ، وما زالت مدينة الرسول (عليه الصلاة والسلام) تضم مسجدًا يُسَمّى مسجد القبلتين شاهدًا حيـًا على الترابط الديني بين مكة والقدس ، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى .
وإذا ذ كر المسلم بحسه الدينى الممتد ووعيه التاريخي الإسلامي بيت المقدس ، فإنه يذكر أنه المكان الذي كلم الله فيه موسى ، وتاب على داود وسليمان ، وبشر زكريا ويحيى ، وسخر لداود الجبال والطير ، وأوصى إبراهيم وإسحاق أن يدفنا فيه ، وفيه ولد عيسى وتكلم في المهد ، وأنزلت عليه المائدة ، ورفع إلى السماء وفيه ماتت مريم ، إن هذا هو موقف المسلم من الأنبياء وتراثهم ومن بيت المقدس ، وهو موقف يقوم على التقدير والتقديس والشعور بالمسئولية الدينية والتاريخية .
وعلى العكس من هذا الإجلال الإسلامي لبيت المقدس ، وللأنبياء والأخيار الذين اتصلوا به كان موقف اليهود.
فكل هؤلاء الأبرارالذين ذكرناهم وغيرهم قد نالهم من اليهود كثير من الأذى ، ولولا عناية الله بهم لما أدوا رسالتهم ، ولولا تنزيه القرآن لهم ودفاعه عنهم لوصل تأريخهم إلى البشرية مشوهـًا بتأثير تحريف اليهود عليهم ، وظلمهم لهم ، وكما نقلنا عن توراتهم في النصوص السابقة .
إن المسلم إزاء كل هذا يحس بمسئوليته الدينية العامة تجاه بيت المقدس ، باعتباره مركزًا أساسيـًا لتراث النبوة .
ووفقـًا لتعاليم الإسلام ، فإنه ليس مسلمـًا من لا يحمي تراث الأ نبياء كل الأنبياء من التدمير المادي أو التشويه المعنوى ، وهو الأمر الذي سعى إليه اليهود في كل تاريخهم على مستوى الفكر حين حرفوا التوراة ، وابتدعوا التلمود وملئوها بما لايرضي الله ولا يقبله دين سماوى ، وعلى مستوى التطبيق حين عاثوا في كل بلاد الله الفساد ، وحاربوا كل الأنبياء وأشعلوا الحروب ، وجعلوا أنفسهم شعب الله المختار ، وبقية الشعوب في منزلة الكلاب والأبقار ، ولذا ينبغى على المسلم الصادق جهادهم دفاعـًا عن شريعة الله الحقة، واستنقاذًا لتراثهم المعنوى والمادى .
إن المؤرخ الإنجليزي الموسوعي الأستاذ "أرنولد توينبى" صاحب أكبر دراسة للحضارات ، وأحدث نظرية ظهرت في تفسير التاريخ ، قد تنبه إلى هذا الخطر الذي يتجاهله الكثيرون في العالم ، والذي يوشك أن يهز البناء الإنسانى كله . وقد وجه في سنة 1955م نداءً إلى الشعب اليهودي في إسرائيل وإلى العالم كله يقول لهم فيه: "لاتقترفوا أخطاء الصليبيين" . ويقول لهم فيه أيضـًا : لقد كان التخلف والتفسخ والفوضى والفساد يسيطر على العرب فصال الصليبيون وجالوا ، وانتصروا في عشرات المعارك ، وهددوا واستفزوا ما شاء لهم زهوهم وخيلاؤهم معتقدين أنهم قادرون على طرد العرب ، وطمس معالم العروبة و الإسلام بحد السيف ، كما اعتقد حكام إسرائيل بعد كل جولة منذ عام 1948، غير أن انكسارات العرب المتتالية في عهد الصليبيين قد فتحت عيونهم على عيوبهم ، فعرفوا أن سر قوتهم في وحدتهم وتفانيهم ، ووراء صلاح الدين ساروا فقطفوا ثمار النصر يوم 3 تموز/ يوليو 1187م في حطين .
وفي النهاية يطالب "توينبي" الأقلية اليهودية أن تعيش كأقلية مع العرب والمسلمين في أمن وسلام .
والحق الذي يستأهل أن يضاف إلى ما ذكره "توينبى" الذي سجل نداءه قبل أحداث 1967م أن قمة المأساة في قضية القدس هي مأساة القدس ، فإن الأفراد والجماعات على السواء هي مخلوقات عابرة وذات أجل وتنتهي مآسيها بزوالها عن الحياة ، ولكن هذا الشيء لاينطبق على الحضارات التاريخية ، والتي تشكل أبنيتها وحجارتها وأزقتها وأماكنها المقدسة وذكرياتها والارتباط بها ، رمزًا تاريخيـًا وحضاريـًا لايمكن نسيانه ، إ نها روح وجزء من دين وأنها حضارة وتاريخ ، وهذا هو حال الفلسطينيين والعرب المسلمين مع القدس.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اصدقاء السوء وصفاتهم وطرق الابتعاد عنهم// بقلم الدكتور صالح العطوان الحيالي الحيالي

مثل ينطبق علي واقعنا(( ظل البيت لمطيره وطارت بيه فرد طيره )) // بقلم د. صالح العطوان الحيالي الحيالي الحيالي

وقاضي قضاة العشق قاتله الهوي/ بقلم الاستاذ توفيق محمد نظمي سرحان